شماعة القضاء و القدر
بسم الله الرحمن الرحيم،
اليوم موعدنا مع أكثر الشماعات إستخداما على جميع المستويات، (القضاء و القدر) و (القسمة و النصيب) و (مقدر و مكتوب)؛ كلها كلمات تحمل نفس المعنى، و هو أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان. و يظل إتهام القدر و النصيب هو الملاذ الأول لكل مخطئ، و الشماعة التى تناسب كل الأخطاء و قصور البشر.
مثلا،
كنت فى يوم من الأيام أقضى نوباتجية فى إستقبال الباطنة بمستشفى الدمرداش؛ دخلت حالة "دوالى مرئ منفجرة" و المريضة كانت فى حالة Hematemesis شديدة. فى تلك الحالات، لابد من سرعة التحرك و السيطرة على الموقف، حتى يتم وقف النزيف حتى لا يتأثر باقى أعضاء الجسد تأثرأ دائما.
عندما دخلت الحالة، وجدت تبلدا لا مثيل له فى طاقم التمريض، بل و فى الأطباء أيضا. ظننت أننى منفعل نتيجة لحداثة خبرتى، فقد كنت فى السنة الخامسة فى كلية الطب؛ و إلتمست لهم العذر فى الهدوء المبالغ فيه، و إعتبرته الهدوء الذى سيسبق العاصفة. إنتظرت العاصفة طويلا و لم تظهر حتى بوادرها؛ حتى أن نائب القسم لم يكلف نفسه حتى إرسال طلب كيس دم, و حتى لم يأمرنا بتحديد الفصيلة لنقل الدم؛ و إعتبرها حالة ميتة ولم يفعل شيئا لإنقاذها، بل إنه أعطاها سوائل من عينة plasm expanders فقط، ولم يحاول حتى إيقاف النزيف بجدية. ظلت المريضة تنزف حوالى ساعتين، و لم يحرك أحد ساكنا، حتى توفيت المريضة أما عينى.
كانت تلك المرة أول مرة لى أرى فيها شخصا يموت، و قد أثر فى نفسى هذا الموقف جدا، و هذا الإستهتار و اللامبالاة التى تعامل بها الأطباء مع الحالة؛ حتى أننى كنت مع زميلى د.كمال، و تبادلنا الإنعاش القلبى و الرئوى طوال الساعتين؛ وكلما توقفنا عن الإنعاش، يقل نبض القلب بالتدريج، حتى نبدأ ثانية.
ظل معدل النبض يقل تدريجيا، دقة بدقة، من الرقم 250 - على ما أتذكر - إلى الرقم 100؛ و لكم أن تتخيلوا مقدار شدة أعصابى و أنا أفقد أول مريضة فى عمرى، وليس بأى شكل، بل بالتدريج؛ فاجأتنى إحدى النواب بكلمة، قتلت ما تبقى بداخلى من أمل، بادرتنى قائلة( كفاية إنعاش كده، و أول ما النبض يوصل 60، قول لأهلها يصوتوا عليها)!!!!!
كان هاين عليا ساعتها أن أصفعها على وجهها، إلا أننى كنت مذهولا، صامتا، ولم أحرك ساكنا، و نظرى معلق بجهاز المونيتور، و أنا أرى النبض يتهادى نحو نهايته،
60.59.58.57.56.55.54.53
و حتى الصفر،،،،،،
عندما نظرت بجوارى، وجدت زوجها واقفا، دامع العينين، يئن بجوارى،،،،لكنه سألنى بثبات (خلاص؟) ،،،، أجبته و أنا أقاوم دموعى (حضرتك شايف إيه؟)،،،،حتى أننى لم أجرؤ على أن أصرح له بوافتها،،،،أو بمقتلها،،،،أيهما أصح.
خرجت خارج غرفة الطوارئ، و أنا أكاد لا أرى أمامى. مشيت مسرعا نحو النائب و سألته
(هل هذا كل ما كان يتوجب علينا فعله بالنسبة لتلك الحالات؟)
قال لى (هنعمل لها إيه؟!!، نصيبها تموت هنا، ربنا كاتبلها كده)،
خرجت من المستشفى و أقسمت أننى لن أخطو بقدمى فى هذا المكان الملعون مرة أخرى. و خرجنا أنا و د.كمال، و ذهبنا إلى جاد عباس العقاد و تعشينا سويا، وإن لم أستطع نسيان ما حدث. حتى أنه قال لى - فيما بعد - أننى كنت أكلم نفسى و أنا معه.
ذهبت إلى المخروبة - كلية الطب - فى اليوم التالى، و عندما حكيت ما حدث لبعض زملائى، سمعت منهم نفس الإتهام للقضاء و القدر، و أن الله تعالى قدر لها الوفاة بتلك الطريقة، بنفس جملة النائب (ربنا عاوز كده)
مثال آخر:
عندما يرتبط إثنان، و يكتشفان أن لون الحياة ليس "بمبى"، بل أنه "كحلى" يقارب "السواد" فى بعض أحواله، و يكتشف كلا منهم عيوب الآخر، فإنهما سيصبران، لأن الموضوع ده (قسمة و نصيب)، و لا جناح عليهما فى عدم صحة الإختيار، ولا يلام أى واحد منهما عن تقصيره فى إختيار شريك حياته، بل يلومون ( القضاء و القدر) و (القسمة و النصيب)، كى يدفعوا عن أنفسهم تعب تحليل الأمور و البحث عن المقصر الحقيقى.
وفى المثالين السابقين، نجد فارقا كبيرا بين نوعين من البشر،
نوع يقوم بواجباته،،،،وينتظر قضاء الله،،،سواء بالنجاح أو بالفشل
و
نوع لا يقوم بواجباته،،،،،و ينتظر قضاء الله،، كى يحمله نتيجة تقصيره و تواكله.
ففى مثال المستشفى،
لو كان الطبيب أصر و حاول و نقل دم و أوقف النزيف،،،فإنه لم ليكن لينقذها إذا قدر الله لها الوفاة،،،،لكن فى تلك الحالة لن يلومه أحد،،،و إحنا عملنا اللى علينا و الباقى على ربنا،،،
لكن أن لا يفعل شيئا،،،،و لا يحرك ساكنا،،،،وينتظر وفاة المريضة - كما حدث - ،،،ثم يتهم القضاء و القدر بالتسبب فى وفاتها،،،فهذا ما لا يقبله عقلى أو عقل أى منصف.
و فى مثال الإرتباط،
لم يكن الله تعالى سيأمرنا، و يوصينا نبيه الأمين (ص)، بأن نحسن الإختيار إذا كان الأمر مقدرا، بهذا المعنى.
قد حددت لنا السنة النبوية المطهرة، شروط الإختيار السليم، فإذا تخيرناها،،،فما سيكون، هو الصواب،
وقد قال الله تعالى {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}، أى أن هناك أجر لكل من إتقى الله، و عمل واجباته،،، بغض النظر عن النتيجة،،،فإن الله تعالى سيحاسبنا على الأعمال قبل النتائج.
أرجو من الله أن نقف وقفة صادقة مع أنفسنا،
و نحاول أن نتقى الله فى أفعالنا
و ننحى سلطة (بضم السين) القضاء و القدر جانبا
و نحاول أن نصل إلى المقصر الحقيقى فى أسباب فشلنا،، حتى نتكمن من تصحيح الأخطاء و اللحاق بركب التقدم،،الذى سبقنا بأميال و قرون،،،،و نحن مازلنا نبحث عن شماعة ما، تناسب حجم أخطائنا، دفعا لشبهة التقصير، و رغبة فى الإستسهال.
و فى النهاية،
هذا رأيى الشخصى،
أتمنى من الله التوفيق، و العفو إذا أخطأت.
إبقوا معنا فى مدونة
تحت الحزام
أنتم مع
د.علاء زكى.
